كتب _دكتور اشرف المهندس
عندما يسأل الأحفاد ، كبار السن في العائلة ، عن أحوال السكن في مصر منذ ٦٠ الي ٧٠ سنة ، سوف يستمعون الي إجابات تتجاوز مستوي الخيال لدي هذا الجيل .
سوف يستمعون مثلا : الي وفرة المساكن بالإيجار . وفرة تسمح للمستأجر أن ينتقل من بيت الي اخر ، في نفس اليوم والليله ، إذا لم يعجبه المكان أو الجيران ، أو صاحب البيت ذاته .
وسوف يسمع أن إيجار شقة ثلاث غرف ومنافعها لم يكن يزيد علي جنيه شهريا . وربما يتذكر الأجداد أن هذه النماذج مازالت قائمة . وأن هناك شققا وسط مدينة القاهرة ، لا يزيد إيجارها عن إثنين جنيه حتي الآن ..
هذه الصورة الخيالية إنكسرت تماما خلال الحرب العالمية الثانية .
السبب أن الطائرات الألمانية والإيطالية ، أجبرت المصريين علي الهجرة من مدينتي القاهرة والأسكندرية ، والإقامة في مناطق آمنه شمال الدلتا ، أو الصعيد ..
وهناك من الإحصائيات الرسمية ، مايرصد وجود ١٤٠ الف عائلة مهاجرة خوفا من قنابل دول المحور . وبلغ العدد الإجمالي في بعض المراحل الي ٣٥٠ الف عائلة ..
ولم يمض وقت طويل حتي تحققت نبوءة ثورنتون حين دخلت إيطاليا الحرب وبدأت طائراتها, بالاشتراك مع الطائرات الألمانية, في قصف المدينتين المصريتين الكبيرتين انطلاقا من القواعد الليبية, وكانت الإسكندرية الأكثر تعرضا للقصف, ليس فحسب لقربها من مناطق انطلاق الطائرات, ولكن لأنها كانت المقصد الأول للحملات التي زحفت من الغرب متجهة إليها عبر ساحل البحر المتوسط, ولأنه قد ربض فيها عدد من قطع الأسطول البريطاني في هذا البحر.
وقد بادرت الحكومة إلي اتخاذ إجراءاتها ففتحت في أقسام البوليس في المدينتين عددا من المكاتب لتسجيل أسماء الراغبين في الرحيل عن أيهما مع اشتداد الغارات الجوية; في القاهرة طلب من الراغبين في الهجرة بيان ما إذا كانت الهجرة علي حسابهم الخاص وبيان الأماكن التي يختارونها, أم علي نفقة الحكومة والجهات التي تختارها.أما في الإسكندرية فقد بدئ في توزيع بطاقات الترحيل علي من تقرر ترحيلهم من سكان مينا البصل وبلغ عددهم نحو14 ألف نسمة, واتخذت الإجراءات اللازمة لنقلهم إلي الأماكن التي أعدت لهم في مديرية البحيرة.
وخلال النصف الثاني من يونيو عام1940 ومع اشتداد الغارات الجوية علي نحو لم يألفه سكان القاهرة بدأ هؤلاء في النزوح الواسع عن مدينتهم, وتشير الإحصاءات التي نشرتها جريدتنا يوم19 من هذا الشهر إلي خروج نحو1600 أسرة إلي الوجهين البحري والقبلي قدر عدد أفرادها بثمانية آلاف, الأمر الذي دفع مصلحة السكك الحديدية إلي تخفيض أجور سفر العائلات النازحة من المدينة إلي الريف بنسبة30%, كما طلبت السلطات المشرفة علي ترحيل هؤلاء من وزارة المواصلات الترخيص لسيارات النقل بالمرور بجميع المديريات تيسيرا لنقل ما يحملونه من متاع.
في الإسكندرية ولأن حركة النزوح كانت أوسع كثيرا فقد تم تقسيم حركة الترحيل إلي الأقاليم الداخلية إلي ثلاثة أقسام; أولها: تضم الراغبين في الرحيل من سكان المدينة كلهم وهم نحو تسعين ألفا, والثاني:بإعادة العمال الفقراء من العاملين فيها إلي مدنهم ومراكزهم, وقدر عددهم بنحو27 ألفا, والثالث بترحيل سيئي السلوك المشتبه في أمرهم, وهم أكثر من ألفين, وقد رؤي أن يتم ترحيل أبناء المجموعة الأولي إلي أقرب المديريات, البحيرة, أما أبناء المجموعة الثانية فتم ترحيلهم إلي البلاد التي جاءوا منها, أما المجموعة الثالثة فقد ترك للبوليس أن يتصرف معها.
وقد نشأ نتيجة لاتساع عملية النزوح مشكلة لا تخطر علي أبناء الوقت الحالي, وهي المشكلة الناجمة عن وفرة المساكن في ذلك العصر بحيث كان الحصول علي ساكن لا يقل أهمية عن الحصول علي سكن الآن.. فقد جري البحث وقتئذ في أمر عقود تأجير المساكن في المناطق الخطرة التي يخليها السكان, وعما إذا كانت العقود تقيد المستأجرين فلا تجيز لهم ترك منازلهم, وتلزمهم بدفع أجورها ولو هجروها, أم أن حالة الخطر تقضي بأن يتحلل المستأجر من قيود الإيجارة؟ وهو السؤال الذي وقفت السلطات حائرة أمامه.
وكعادة بعض المصريين في مثل هذه الظروف فإنهم ينتهزون الفرصة لاستغلال الوضع القائم, وهو ما حدث من حصول هؤلاء علي استمارات السفر المجانية لتحقيق أغراضهم, الأمر الذي تكشف عنه هذه القصة الطريفة التي نشرتها جريدتنا ننقلها هنا بنصها:
‘ من طريف ما حدث أن أسرة طلبت من بوليس الأزبكية استمارة سفر مجانية إلي بورسعيد. ولما كانت هذه المدينة ليست من البلاد التي يلجا إليها, فقد استدعي المأمور تلك الأسرة وهي مكونة من أربع فتيات ووالدتهن, وسأل عن سبب السفر فتبين له أنهن يرغبن في قضاء بضعة أيام هناك لتبديل الهواء جريا علي عادتهن, ولما آخذهن علي ذلك قالت والدة الفتيات:
- وماله يابيه.. هيه الحكومة فقيرة؟!
- وعلي أثر ذلك رفض المأمور إعطائهن استمارات السفر’.
زاد تيار الهجرة في أواخر يونية حتي بلغ عدد من ترك الإسكندرية خلال أسبوعين بالسكك الحديدية نحو140 ألفا, ويقول مراسل الأهرام في المدينة أنه شاهد بنفسه في يوم واحد نحو ثلاثة آلاف يغادرونها إلي مختلف الأقاليم الداخلية; وفي أول يوليو1940 كان قد بلغ عدد الذين قيدوا أسماءهم للهجرة من القاهرة نحو90 ألفا وأن عدد المنازل التي خلت من ساكنيها في القاهرة نحو500 منزل, هذا فضلا عن حوالي500 شقة بالإضافة إلي عدد آخر من المنازل والشقق التي خلت من قاطنيها ولكنهم تركوا أثاثهم بها.
ويبدو أن هجرة هذه الأعداد الكبيرة قد خلقت مشاكل للمسئولين, فأغلب سكان القاهرة غير القادرين الذين تم تهجيرهم إلي مديريات القليوبية والفيوم وبني سويف والجيزة والمنيا أقاموا في بعض المدارس الإلزامية والخيام تنفق عليهم الحكومة, غير أن ذلك لم يمنع من ارتفاع الأسعار في تلك الجهات مما عزوه إلي رغبة التجار في استغلال حاجة المهاجرين, الأمر الذي كان محل شكاوي متكررة من هؤلاء.
ولم تكن المشكلة في أبناء القاهرة والإسكندرية ممن يمكن توصيفهم بالمستورين, وهم إما من القادرين من الشريحة العليا من الطبقة الوسطي الذين يستطيعون مواجهة زيادة النفقات, وإما من الشريحة المتوسطة ممن لهم أصول ريفية فعادوا إلي القري التي وفدوا منها, كانت المشكلة في الفقراء الذين تقطعت أصولهم بالريف, أو ممن لم يكن له فيه أصول من أساسه, وهو ما تولته السلطات التي أرسلت بخمسة آلاف من هؤلاء إلي مديريات الجيزة والفيوم والقليوبية وبني سويف والمنيا, وقد صدرت التعليمات إلي المسئولين فيها بتعيين قرية لكل من هؤلاء المهاجرين ينزل فيها, علي أن يراعي في ذلك عدم التفريق بين أفراد العائلة الواحدة, وجعل إقامة أهل الحي الواحد, بقدر الإمكان, في قرية معينة.
وعلي هامش ما حدث حاولت إذاعات دولتي المحور أن تستغله لإثارة المصريين ضد الإنجليز, فكان مما روجته أن الحكومة البريطانية قد أجبرت سكان الإسكندرية والقاهرة علي الرحيل عنهما إلي الريف, حتي أن المذيع الإيطالي في راديو روما عقب علي ما أذاعه في هذا الشأن بالقول:’ وكان من نتائج إخلاء القاهرة أن شلت فيها الحركة التجارية’, في حين أن المذيع الألماني في محطة برلين ندب حظ المهاجرين بالقول:’ والمحزن حقا في هذا الأمر, أن أغلب المهاجرين كانوا من المرضي والمقعدين’.
غير أن اشتداد الغارات مع تقدم قوات المحور نحو العلمين خلال العام التالي, والتي كان مقصدها في النهاية مدينة الإسكندرية, وما صحبها من خسائر نزلت بالمدنيين دفعت بهم إلي عملية نزوح واسعة جديدة, وتم تقدير عدد هؤلاء ممن غادروا المدينة حتي يوليو عام1941 بنحو350 ألف مهاجر, وبينما ازدحمت بهم المعسكرات التي أنشئت في خورشيد فإن الإسكندرية نفسها أصبحت أقرب إلي مدينة للأشباح!